القس رفعت فكري سعيد
رئيس مجلس الإعلام والنشر
بالكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر
كان السيد المسيح يتمتع بقلب كبير بلا جدران، يتسع لكل إنسان أيًا كان فكره أو دينه أو مذهبه أو معتقده، وهو أعطى الحق لأي إنسان أن يعتنق ما يشاء من أفكار دون أن يريق دمه أو يؤذيه، ولعل ما دونه البشير لوقا في بشارته الأصحاح 9: 51–56 يؤكد هذا الفكر، يقول الكتاب المقدس عن السيد المسيح: “وحين تمت الأيام لارتفاعه ثبت وجهه لِينطلق إِلى أورشليم، وأرسل أمام وجهِه رسلاً، فذهبوا ودخلوا قرية لِلسامرِيين حتى يعدوا له. فلم يقبلوه لأن وجهه كان متجِهًا نحو أورشليم. فلما رأى ذلِك تلميذاه يعقوب ويوحنا، قالا: «يارب، أترِيد أن نقول أن تنزِل نار من السماء فتفنيهم، كما فعل إِيليا أيضًا؟» فالتفت وانتهرهما وقال: «لستما تعلمانِ من أي روحٍ أنتما! لأن ابن الإِنسانِ لم يأت لِيهلك أنفس الناسِ، بل لِيخلص». فمضوا إِلى قرية أخرى”.
لقد كان اليهود يكرهون السامريين لأنهم مخلطون – أي جنس خليط نتج عن تزاوج اليهود من الأمم – لذا كان اليهود الأصليون يكرهون هؤلاء المخلطين باعتبارهم تزوجوا واختلطوا بالأمم، وكان السامريون بدورهم يكرهون اليهود ويعتبرونهم رجعيين منغلقين لأنهم لم يختلطوا بالحضارات الأخرى، وقد حدث الكثير من التوترات بين هذين الشعبين، حتى إن اليهود المسافرين بين الجليل وجنوب اليهودية غالبًا ما كانوا يدورون حول منطقة السامرة ولا يسلكون فيها حتى وإن طالت رحلتهم، أما المسيح فلم تكن لديه تلك الأحقاد، فعندما قصد أن يذهب إلى أورشليم اختار السامرة ليمر من خلالها، وأرسل رسلاً ليعدوا له منزلاً في إحدى قرى السامرة، ولكي يهيئوا ما يلزم لهذه الزيارة، ولكن السامريين رفضوا استقبالهم، وجاء هذا الرفض لأن اتجاه وجه المسيح ومعه جمهور كثير كان متجهًا نحو أورشليم، وهذا التوجه يجرح كرامة السامريين ويطعنهم في كبريائهم الدينية، لأنهم كانوا يفاخرون بجبل جرزيم أكثر من أورشليم، ولذلك رفض السامريون استقبال المسيح، الأمر الذي جعل يعقوب ويوحنا تلميذي المسيح يثوران ويطلبان من المسيح أن يأذن لهما بطلب نار من السماء لتفني أهل القرية، لقد كان التلميذان أشد تعصبًا من السامريين، فالمتعصب يحاول إبادة كل من يختلف عنه سواء في الفكر أو المعتقد أو الدين، ولكن المسيح التفت إليهما وانتهرهما ووبخهما قائلاً لهما: لستما تعلمان من أي روح أنتما؟!! إني قد أتيت لا لأهلك نفوس الناس بل لأخلصها، وهكذا لم يحارب المسيح السامرة ولم يدخل إليها عنوة مقتحمًا إياها، وكذلك فإنه لم يطلب من الله الآب نارًا من السماء لتفنيها، لقد رفض المسيح قتل المغايرين دينيًا وفكريًا، إيمانًا منه بحق أي إنسان أن يعتنق ما يشاء، واعتقادًا منه بأن حق الاختلاف هو شئ طبيعي حيثما وجد البشر.
من المؤسف والمخجل أنه يوجد كثيرون من البشر يؤصلون لرفض الآخر، ويؤكدون على كراهيته، ويظنون أنهم بذلك البغض وبتلك الكراهية إنما يتقربون إلى الله، وكأن الله يحب من يكره أخاه في الإنسانية ويبغضه لمجرد أنه يخالفه في عقيدته !!
إن الداء العضال والمعول الهدام في صرح الكنيسة والذي قسمها إلى فرق وشيع وأحزاب هو اعتقاد كل فريق أن عقيدته وحدها هي الصحيحة، بينما كل عقيدة أخرى فاسدة وباطلة، ما يفتت وحدة الكنيسة هو اعتقاد كل جماعة أنها بمفردها تمتلك الحق بإطلاقاته وكل جماعة سواها ضالة عن الحق، بل هي على الباطل المطلق بجميع أطروحاته، وما بين الباطل المطلق والحق المطلق يدعي الجميع الوصاية المطلقة باسم الله!!
وأنا هنا لا أطالب بأن ينضم الجميع إلى كنيسة واحدة أو طائفة واحدة، ولكنني أدعو إلى الوحدة المتنوعة التي يسعى لتحقيقها مجلس كنائس مصر، فالتعددية ثراء والتنوع غنى، والعصفور الواحد لا يصنع ربيعًا والزهرة الواحدة لا تصنع بستانًا واللحن الواحد لا يعطي نغمًا جميلاً، إن الوحدة المسيحية المنشودة هي الوحدة في التنوع والاختلاف، والنضج الحقيقي يتمثل في أن يقبل كل فريق الفريق الآخر في محبة حقيقية، ويجب أن يعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، إن النص الديني واحد، ولكن تفسيره قد يختلف من شخص لآخر ومن جماعة لأخرى، ومن حق كل إنسان أن يتبنى التفسير الذي يراه صحيحًا بشرط ألا يعتبر أن أصحاب أي تفسير آخر مشبوهون أو هراطقة أو أنهم ضلوا عن الصراط المستقيم !!
كتب مرة أوليفر كرومويل إلى الأسكتلنديين المعاندين يقول: “أطلب منكم بأحشاء رحمة المسيح أن تفتكروا أنكم قد تكونون على خطأ”، ليس لإنسان أو لكنيسة بعينها أن تحتكر الطريق إلى الله، فالله أكبر من أن تحتكره كنيسة، وأسمى من أن يحتويه مذهب، وأعظم من أن تمتلكه طائفة، فلماذا نتهم بعضنا البعض بالهرطقة والزندقة؟! ولما نزدري ببعضنا البعض؟! ولماذا نريد في غالبية الأحيان أن نلاشي ونبيد بعضنا البعض باسم الدين وباسم الحق وباسم الله؟! نحتاج لأن يكون لنا صدر المسيح المتسع الذي يحوي قلبًا كبيرًا حانيًا بلا جدران، فحينئذ فقط سنكون متسامحين فكريًا وعقائديًا وسنقبل بحب واحترام بعضنا بعضًا.
تمت المراجعة
الوحدة المسيحية المنشودة هي الوحدة في التنوع والاختلاف، فالتعددية ثراء والتنوع غنى، والنضج الحقيقي يتمثل في أن يقبل كل فريق الفريق الآخر في محبة حقيقية