البابا فرنسيس الذي ترك قلبه بيننا
بعض اللقاءات لا يحفظها التاريخ فقط، بل تحتفظ بها القلوب كنقش لا يمحوه الزمن. لقاءات لا تدرج في سجلات البروتوكول، بل تكتب في سفر المحبة الصامت، وتظل شاهدة على لحظات من النعمة الخالصة.
هكذا كانت لقاءاتي مع قداسة البابا فرنسيس، من خلال مرافقتي لقداسة البابا تواضروس الثاني، “بابا المحبة” والصديق الحبيب لقداسة البابا فرنسيس، في زيارتين تاريخيتين إلى الفاتيكان في مايو ٢٠١٣ ومايو ٢٠٢٣.
في مايو ٢٠١٣، كان العالم لا يزال يكتشف ملامح هذا الحبر الأعظم الجديد، الذي جاء من أقاصي الأرض ليحمل قلب المسيح في بساطته ومحبته.
وكان قداسة البابا تواضروس الثاني، حديث العهد بتجليسه بطريركًا، قد بادر بزيارة أخوية إلى الفاتيكان، حملت في طياتها رسالة حب ووحدة، وأعادت فتح جسور التواصل بين الكنائس.
كنت بين الحاضرين، ورأيت بعيني ذاك اللقاء التاريخي الذي اتسم منذ لحظاته الأولى بالدفء الإنساني العميق. لم تكن الكلمات الرسمية وحدها التي نطقت، بل كانت الأرواح تترنم بلغة لم تكن تحتاج إلى ترجمة: لغة المحبة.
ومرت السنوات، وجاء مايو ٢٠٢٣، عدنا إلى الفاتيكان مع قداسة البابا تواضروس الثاني، حاملين ذكريات الماضي ورجاء المستقبل.
ورغم أن الزمن ترك بصماته على جسد البابا فرنسيس، إلا أن قلبه ظل شابًا، نابضًا بالمحبة، متقدًا بالرجاء.
كان اللقاء هذه المرة أعمق، يحمل في تفاصيله ودًا وصداقة نمت عبر السنين، وشهدت بعيني كيف أن المحبة كانت تسبق الكلمات بين البابوين، وكانت النظرات بينهما تحكي أكثر مما يمكن لأي خطاب أن يقول.
وأتذكر بتأثر عميق ذلك المشهد الخاص، حين اجتمعنا حول مائدة المحبة في بيت القديسة مرتا، تلبية لدعوة البابا فرنسيس.
لم تكن المائدة مغطاة بأفخم الأطباق أو مزينة ببهرج الطقوس، بل كانت بسيطة، متواضعة، دافئة بروح العائلة الواحدة.
جلس قداسة البابا فرنسيس بيننا كأب وأخ وصديق كان يحمل كأس الماء بيده ويطمئن أن الجميع مرتاح، يبتسم، يستمع أكثر مما يتكلم، ويسأل بحب حقيقي عن أحوال الكنيسة في مصر، عن الشباب، عن الرهبنة، عن الخدمة، وكأنه يجلس مع أخواته في بيتهم.
في تلك اللحظة، شعرت أن هذه المائدة لم تكن مجرد وجبة طعام، بل كانت سر محبة حي، تجسد فيه الإنجيل معيشًا.
كان البابا فرنسيس يخدم قبل أن يُخدم، يملأ الكؤوس للآخرين قبل أن يفكر في نفسه، وكأنه يعيد أمام أعيننا مشهد المسيح في العشاء الأخير حين انحنى وغسل أقدام تلاميذه.
كانت مائدة تعلّمنا دون خطب، مائدة تجعلنا نؤمن أن الكنيسة الحقيقية تبنى حول الطاولات البسيطة، لا فوق العروش الذهبية.
ولم أنسَ مشهد تلك اللحظة الخاصة، عندما همست للبابا فرنسيس بالفرنسية قائلاً: “نحن نحبك، اذكرنا دائمًا.”؛ فرفع عينيه اللتين كانتا تلمعان بمحبة صافية، وابتسم تلك الابتسامة التي لا تُنسى، وقال لي: “أنتم في قلبي.”.. رد البابا كانت وعدًا أبديًا بالمحبة، ختم به قداسته لقاءًا سيبقى حيًا في القلب إلى الأبد.
اليوم، ونحن نودع البابا فرنسيس قديس السلام، لا نودعه كزعيم كنسي عظيم، بل كأب احتضن العالم المتألم، وصديق سار إلى جانب المهمشين، وشاهد حي للرحمة الإلهية وسط عالم تزداد فيه الحاجة إلى نور المحبة.
نودع رجلاً عاش الإنجيل فعلاً لا قولاً، حمل صليب المرض والألم دون أن يتوقف عن الابتسام، ولم يجعل من عرشه مقامًا بل مائدة محبة مفتوحة لكل إنسان.
أيها الأب الحبيب،
ستبقى كلمتك لنا محفورة في أعماقنا:
“أنتم في قلبي”
ونحن أيضًا، يا أبتِ،
أنت في قلوبنا، اليوم وإلى الأبد..
مايكل فيكتور
رئيس لجنة الإعلام بمجلس كنائس مصر